Translated into Arabic by Ahewar.
مجلة المعارضة، خريف ٢٠٠٦.
في ١٩٩٤، تجمعت مجموعة من فرق النشطاء لتشكيل حملة موحدة ضد البنك الدولي واخته، منظمة صندوق النقد الدولي. كانت المؤسستان تحتفلان حينذاك بنصف قرن من الاعمال، وقد تأسستا في مؤتمر بريتون وودز بالقرب من نهاية الحرب العالمية الثانية. كان اسم الائتلاف الناشط وشعاره “كفى خمسين عاما”.
بدا نداء المجموعة للحركة ضد المؤسسات الدولية المالية غير مناسبا للحظة. منتصف التسعينات كان اوج زمان عولمة الكوربوريشن. كان الحماس لتوسيع “الاقتصاد الجديد” عاليا. وضعت ادارة كلينتون هياكل مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية في مركز سياستها الخارجية. وبدت مسيرة النيوليبرالية الاقتصادية لا يستطيع احد ان يقف في طريقها.
ومع ذلك، في الاحتفال السنوي بالذكرى الستين لهذه المؤسسات في ٢٠٠٤، تغيرت الاشياء. ساعدت ازمات الارجنتين واسيا على اخراس اصوات الابتهاج والحماسة لسياسات اجماع واشنطن. نقد اليسار – الذي واجه ممارسات البنك الدولي باجبار البلدان المحتاجة للقروض على التعديل الهيكلي، ودعمه لبناء السدود والمشاريع الضخمة الاخرى المدمرة للبيئة وهيكله غير الديموقراطي في اتخاذ القرار — جذب احتجاجات جماهيرية واسعة ضد اجتماعات البنك الدولي التي كانت تتم سابقا في الخفاء. واضطر البنك البدء في حملة هجومية لمكافحة الفقر من اجل الدعاية لرسالته الفاضلة في انهاء الفقر. الا انه ربما ما زال في انتظار المدافعين عن البنك الدولي مزيد من الحيرة والارباك، حيث اصبح الاقتصاديون المحافظون ذوي النفوذ والتأثير ومسئولو ادارة بوش هم ايضا على استعداد للجهر بشعار “كفى”.
ظهر مشهد مثير على الارض اثناء سنوات بوش. حافظ البيت الابيض بافضل ما يكون على استمرار علاقة ملتوية بالبنك الدولي — وفي اوقات تخلى عنهما معا. النقاد اليمنيون المحافظون تقدموا برؤية لعالم دون البنك الدولي. في هذا السياق الجديد، التقدميون مدعوون ليس فقط لتمييز مطالبهم الخاصة ولكن ايضا لتدبر احتمالات ظهور تحالفات غير معتادة.
افول العولمة المتعددة الاطراف
الاتجاه الجديد نحو البنك الدولي هو جزء من سعي ادارة بوش نحو استراتيجية مختلفة لادارة سياسة الولايات المتحدة الخارجية ككل. في حقبة كلينتون، تم نشر القوة الامريكية لتوسيع وحماية اقتصاد كوكبي متعدد الاطراف “صديق للكوربوريشن”، “قائم على القواعد والقوانين”. بالتباين مع “عولمة الكوربوريشن” الكلينتونية، صاغ بوش “عولمة امبراطورية”، اكثر احادية واكثر عدوانية. هنا الولايات المتحدة تصبح جاهزة للتضاد مع الحلفاء الرأسماليين التقليديين سعيا وراء مغانم اقتصادية قومية الطابع. كلا الرؤيتان للنظام الكوكبي تنبع من نظرة نيوليبرالية، ولكنهما يختلفان بشكل ملموس في ادارتهما للشئون الدولية.
العسكرة المتشددة للمحافظين الجدد، بغض النظر عن القوة “الناعمة” للولايات المتحدة، والشغف الذي عزلوا به “اوروبا العجوز” الغير متعاونة عن افساد حرب العراق هي جزء من هذا الانحراف. والجزء الاخر هو الاستعداد لتجاوز وحتى تدمير الهياكل المتعددة الاطراف لعولمة الكوربوريشن. رغم ان الولايات المتحدة تهيمن بشكل واسع على تلك الكيانات، هذه الكيانات تتطلب الوصول الى حلول وسط. في اوقات معينة تستطيع هذه الهيئآت عرقلة مخططات البيت الابيض — وتلك لعنة في نظر الانفراديين في السلطة. لذلك، مؤسسات بريتون وودز في خطر.
الابتعاد عن مقاربة العولمة المتعددة الاطراف في السنوات الاخيرة كان اوضح ما يكون فيما يتعلق بمنظمة التجارة العالمية. وقت انعقاد المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في سبتمبر ٢٠٠٣ بكانكون، نشرت النيويورك تايمز تقريرا قالت فيه ان الولايات المتحدة كان لها “سجلا طويلا من انتهاكاتها للاحكام واللوائح المنظمة للتجارة الدولية” ولاحظت ان “المسئولين الكبار في منظمة التجارة العالمية يقولون انهم قلقون من ان سياسة ادارة بوش الانفرادية تهدد التجارة الدولية تهديدا خطيرا”. قبل انهيار محادثات كانكون، شيفالي شارما من معهد الزراعة والتجارة علقت قائلة، “في السابق، كان الاتحاد الاوروبي هو المذنب الاكبر” بمعنى رفضه الوصول الى حلول وسط، “ولكن الولايات المتحدة الان تجعل اوروبا تبدو كملاك”.
حافظت الولايات المتحدة لوقت على منظمة التجارة العالمية عرجاء. ولكن المحادثات تقدمت قليلا جدا، وفي الاخير انهارت مفاوضات “جولة الدوحة” في اواخر يوليو ٢٠٠٦. كبديل للصفقات التجارية المتعددة الاطراف، تسعى ادارة بوش لعقد صفقات تجارية حالة بحالة مع بلاد منفردة. يفقد الشركاء التجاريين الاقل قوة، في تفاوضهم وحدهم، القدرة على الانضمام لكتلة مثل العشرين الكبار، التي قاومت مطالب الولايات المتحدة في كانكون. استخدمت الادارة الامريكية بنجاح اسلوب ثنائية الاطراف للتفاوض حول اتفاقيات مريحة لها مع بلاد منها، استراليا والمغرب وسنغافورة وتشيلي، وهي تسعى حاليا للتفاوض مع اخرين.
خسارة الحماة الدوليين
ليس مدهشا ان منظمة التجارة العالمية سوف تكون اول المؤسسات التي سيتم تجنيبها بواسطة ادارة بوش. منظمة التجارة العالمية هي اكثر المؤسسات المالية الدولية ديموقراطية، تعمل بنموذج بلدا-واحدا صوتا-واحدا للامم الاعضاء. في الوقت الذي يدعي فيه صندوق النقد الدولي من نفسه “قابلا للمساءلة امام حملة اسهمه”. نظامه التصويتي يوزن بناء على وزن البلد الاقتصادي ومساهماته المالية للمؤسسة. نتيجة لذلك، تمتلك الولايات المتحدة وحدها ١٧٪ من القوة التصويتية. اوروبا تمتلك تقريبا ٤٠٪، بينما تمتلك البلاد النامية باكملها ٣٧٪ فقط من الاصوات في صندوق النقد الدولي. الصين والهند يمثلان باقل من وزنهما لحد بعيد. فروع البنك الدولي يعمل على اساس نظام مماثل لصندوق النقد — وحقيقة ان القرارات الكبرى يجب ان تتخذ باغلبية ساحقة هي ٨٥٪ من الاصوات تعني ان الولايات المتحدة تمتلك سلطة فيتو فعالة على هذه القرارات.
حتى والامر هكذا، تلك المؤسسات قد سقطت ايضا خارج حظوة الانفراديين في البيت الابيض. عند بداية ادارة بوش، والدن بللو من فوكاس على جنوب الكوكب تنبأ بأن اخوات بريتون وودز سوف “يخسرون حماتهم الدوليين الليبراليين مثل وزير الخزانة الامريكي لاري سومرز الذي يؤمن باستخدام البنك والصندوق كادوات محورية لتحقيق اهداف السياسة الاقتصادية الخارجية للولايات المتحدة”.
وقد اثبتت التوقعات صدقها، وعانى البنك الدولي نسبيا من اهمال الادارة الجديدة. ادارة بوش، بدلا من التركيز على استخدام قروض البنك الدولي للترويج للتنمية النيوليبرالية، قد فضلت استخدام المعونة الاجنبية ثنائية الاطراف – وربط حزم المعونة باهداف سياسية وعسكرية بعينها للولايات المتحدة. مثل هذه الصفقات من المعونة ثنائية الاطراف لعبت دورا واسعا في استراتيجية حشد وتعبئة “تحالف الارادة” من اجل غزو العراق.
توم باري، مدير السياسات في مركز العلاقات الدولية، لاحظ اوائل العام الماضي، “الخطة الاستراتيجية لاعوام ٢٠٠٤-٢٠٠٩ التي وضعتها وزارة الخارجية بالتعاون مع هيئة المعونة الامريكية (وكالة التنمية الدولية الامريكية) تحدد “الامن” كهدف اكبر للمساعدات الامريكية الخارجية. تهدف الخطة الاستراتيجية الى “انحياز الدبلوماسية والمساعدات التنموية الى صف استراتيجية الامن القومي للرئيس بوش الموضوعة في سبتمبر ٢٠٠٢ — تلك الوثيقة التي تستعرض حالات الحرب الوقائية وبناء قدرات من اجل التدخل العسكري في الكوكب”.
اوائل هذا العام، تحركت الادارة خطوات اكثر في اتجاه تسييس المعونات الامريكية الخارجية بإنهاء استقلال الهيئة الرسمي ونقلها تحت سلطة وزارة الخارجية. بدلا من نبذ اساءة الاستخدام السابقة للمعونة الامريكية الخارجية، يجعل البيت الابيض من الاستخدام السياسي للمعونات امرا مفضوحا اكثر مما سبق. وفي الاثناء التي ينفذون فيها تلك التغييرات باسم الفعالية والقابلية للحساب والمساءلة، حددت اوكسفام امريكا اعادة تنظيم المعونة الامريكية كخطوة اخرى “في انحراف شديد لمسار المساعدات الامريكية الخارجية” منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر “التي ميعت الخطوط الفاصلة تقليديا بين المعونات التنموية والانسانية وبين العمل السياسي والعسكري”.
الزيادات الملموسة في المعونات الخارجية الامريكية لا تمر عبر قنوات البنك الدولي. بل بالاحرى، ضخت الادارة الامريكية الاموال في مبادارات انفرادية مثل حساب تحدي الالفية (MCA). تمنح هذه المبادرة، التي دشنها الرئيس بوش “صندوق صغير جديد من اجل التنمية الكوكبية”، مساعدة تنموية “لتلك البلاد التي تملك سلطة حكم عادلة، تستثمر لصالح شعوبها، وتشجع الحرية الاقتصادية”. من ناحية المبدأ، تهدف مبادرة حساب تحدي الالفية لجعل المعونة اكثر شفافية بتأسيس قرارات المكافأة على اساس معايير محددة ومخرجات تخضع للقياس. الا ان كثير من المعايير، خصوصا تلك المعايير المرتبطة “بالحرية الاقتصادية”، محيرة حيرة بالغة. من بين هذه المعايير بنود اساسية تكافئ “انفتاح بلد ما على التجارة الدولية” (كما يقيسها رقم الحرية الاقتصادية الذي وضعته مؤسسة هيرتيج ذات الميول المحافظة العتيقة)، بينما توقع العقوبة على “اللوائح والاحكام المالية على الاستثمار والرأس مال الاجنبي”.
كبت البنك
حتى بينما ادارة بوش تدفع بمعونات التنمية من خلال الياتها للتعاون الثنائي الاطراف، ففي لحظات رئيسية، تدافع بشكل نافذ عن وقف تمويل البنك الدولي. والحادثة الاوضح على ذلك وقعت عند اجراء المناقشات التي افضت الى اتفاق الثمانية الكبار على تخفيف الدين في صيف ٢٠٠٥. هناك، تمحور الجدل حول كيفية تمويل الغاء بلايين الدولارات من الديون لاكثر ١٨ بلدا مدينا. كان منطق الولايات المتحدة في الجدال هو ان البنك وصندوق النقد الدوليان يجب ان يستخدما مواردهما الخاصة لتسديد قيمة هذا الالغاء. واكد البيت الابيض موقفه في النقاش بقوله لو ان البنك الدولي توقف عن جمع اقساط سداد الديون المستحقة، فلسوف يكون ما لديه من اموال اقل ببساطة لمنح مزيد من القروض في المستقبل.
العديد من المنظمات الغير حكومية الاوروبية صرخت جزعا، مجادلة بأن هذا التغيير يرقى الى مستوى اعطاء البلاد الفقيرة بيد ليأخذوا منها باليد الاخرى. وجادلوا بأن “اضافة قيمة نهائية”، او ان صافي الزيادة في اموال المعونات من الامم الغنية، هي امر ضروري على الاطلاق. النتيجة النهائية كانت عكس الدور بالنسبة لعديد من النشطاء الذين عارضوا بشكل تقليدي البنك الدولي: دافعت المنظمات الغير حكومية بشكل جوهري عن موقف تجميد صفقة الديون حتى توافق حكومات الثمانية الكبار على تمويل اضافي للمؤسسة التي احتقروا شأنها بشدة.
وليست تلك هي الحالة الوحيدة التي ارتبكت فيها المواقف التقدمية. المكانة المتدنية للبنك الدولي في اعين مسئولي ادارة بوش ساهمت ايضا في وجود بعض التحليلات محل التساؤل عن تعيين بول ولفوويتز كرئيس جديد للبنك في اوائل عام ٢٠٠٥. حتى بينما حذر الليبراليون من ان وولفوويتز قد يدمر البنك الدولي، جادل النقاد من صفوف يسارية اكثر بأن هذا التصرف اظهر المركزية المستمرة للمؤسسة في الترويج لسياسة الولايات المتحدة. القلة اعتبرت ذلك، من منظور المحافظين الجدد، وقد اطاحوا به من تولي منصب رئيسي في وزارة الدفاع يجب اعتباره خفضا وليس ترقية، او ان تدمير البنك الدولي يمكن ان يكون جزءا وبند من بنود العقيدة الامبراطورية للادارة.
الصحافي البريطاني كاتب العمود الصحفي في الجارديان البريطانية جورج مونبيوت قدم استثناءا لهذا التيار في عموده الصحفي في ابريل ٢٠٠٥ معترفا بالتحول الذي يجري ومتمنيا لوولفوويتز امنيات طيبة في منصبه الجديد. كتب، “بالتأكيد يوضح هذا التعيين التناقض غير المعترف به في تفكير المحافظين الجدد. انهم يريدون احباط النظام القديم المتعدد الاطراف واستبداله بنظام جديد، نظاما امريكيا. ما سوف يفشلون في فهمه هو ان النظام “المتعدد الاطراف” هو في الواقع ظلا للتصرف الانفرادي الامريكي، تم حزمه بمهارة وبيعه ليخول للامم الاخرى مجرد فتافيت تكفي لمنعهم من محاربته. مثل خصومهم، المحافظون الجدد يفشلون في فهم كيف حاك روزفلت وترومان بشكل جيد النظام الدولي قطعة بالاخرى. انهم يسعون لاستبدال نظام هيمنة قوي وفعال بنظام لم يختبر ونظام (لان الامم الاخرى سوف تحاربه بالضرورة) غير مستقر. اي شخص يؤمن بالعدالة الكوكبية يجب ان يتمنى لهم التوفيق في مهمتهم تلك.
نقد اليمين
هناك كراهية ومقت عند اليمين نحو البنك الدولي اكثر منه طابعا اصيلا لموقف انفرادي عموما. نقد المؤسسة الذي تنامى من عديد من الاقتصاديين المحافظين اكتسب نفوذا داخل ادارة بوش. وضع هذا النقد اولا بواسطة عالم الاقتصاد كينيث روجوف من هارفارد وجيريمي بولاو من ستانفورد في اوائل التسعينات، مستهجنا عجز وعدم فاعلية البنك. وقد برز هذا الانتقاد منذ ذلك الحين بواسطة لجنة الكونجرس التي ترأسها الاقتصادي الان اتش ميلتسر، الذي نشر اكتشافاته في مارس ٢٠٠٠، وبواسطة ادم ليريك، وهو الاكاديمي الزائر في معهد المشروع الامريكي.
يقدم موقف المحافظين منطقا لتقليص حاد في حجم فروع البنك الدولي. البنك، الذي من الصحيح تسميته مجموعة البنك الدولي، فعليا يتكون من العديد من الكيانات المالية المتحالفة. تتضمن تلك الكيانات هيئة التنمية الدولية (IDA)، التي تمول البلدان الافقر، والبنك الدولي لاعادة الاعمار والتنمية (IBRD) الذي يمنح القروض للبلاد متوسطة الدخل. اضافة الى الكوربوريشن المالي الدولي (IFC) ووكالة ضمان الاستثمار المتعدد الاطراف (MIGA) اللذان يرقيان استثمار القطاع الخاص.
كجزء من اعادة تنظيم جذري للبنك الدولي، يجادل المحافظون بآن على الهيئة الدولية للتنمية ان تتحول بعيدا عن منح القروض، مع التسليم بأن البلدان الفقيرة لا تستطيع بشكل مستمر تسديد ما عليها. بدلا من ذلك، يجادل الاقتصاديون بأن المؤسسة يجب تقديم منح تنمية “على اساس الاداء” للبلدان المحتاجة. يفخر البنك ان الدول التي تتلقى مساعداته لم تتخلف قط عن تسديد ديونها. الاقتصاديون امثال ميلتسر وليريك يتهمون بأن هذا الادعاء يقوم على اساس ممارسات مالية غير مقبولة بالمرة في القطاع الخاص. عندما تفشل البلاد النامية في سداد ديونها، يجبر احد البنوك الخاصة على اعلان افلاسه. على العكس، ببساطة البنك الدولي يوزع القروض الجديدة بحيث تسمح للبلاد المدينة بالاستمرار في سداد ديونها. ورغم ان قلة من البلاد هي التي سددت بالكامل التزاماتها، يستطيع البنك ان يعتمد في حساباته على بعض الدخل الثابت الذي يدخل اليه في شكل تيار ضعيف ولكن مستمر من البلدان الدائنة. اضافة الى ذلك، امتلاك محفظة قروض كبيرة يضيف الى الضجيج المثار حول البنك. ويعتبر الناقدون المحافظون ذلك عارا.
كتب ليريك، “لاكثر من عقدين من الزمان، لعب البنك لعبة الودع مع قروض للامم النامية التي لا تستحق عن طريق اعادة تدوير التمويل فيما حتى تصفه وزارة الخزانة البريطانية “بأوهام جداول الموازنة”. واضاف، “يجب ان يقبل البنك بأنه يعمل ببزنس التنمية، وليس ببزنس البنوك”. كونك تعمل ببزنس التنمية يعني شطب الديون التي مر عليها زمان طويل بعد اعتبارها ديون لا يمكن استرجاع قيمتها، وانهاء حلقة اعادة الاقراض، وتبني اليات اكثر كفاءة في منح التنمية، اقرب لمبادرة الرئيس بوش تحت اسم حساب تحدي الالفية (MCA).
تقدم اليمينيون بمقترحات اكثر شراسة فيما يتعلق بالبنك الدولي لاعادة الاعمار والتنمية. منطقهم هو ان دور البنك كجهة تسليف للبلدان المتوسطة الدخل قد انتهى زمانه في عالم يغرق في طوفان رأس المال الخاص خلال العقود الماضية. البنك لم يقترب باي حال من وضع الممول الاكبر صاحب الكلمة العليا الذي كان عليه في السابق. يكتب ليريك، ما زال البنك “يكافح للمحافظة على استمرار نصيبه في سوق التمويل”.
قد يفضل المحافظون لو ان البنك ينتهي. يدافع تقرير لجنة ميلتسر عن ان البنك الدولي يجب “تحويله” الى شيئ ما لا يشبه البنك الا في القليل على الاطلاق، “من جهة تلسيف للرأسمال-المكثف الى مصدر للمساعدة الفنية، ومورد للسلع العامة الاقليمية والكوكبية، وميسر للتدفق المتزايد لموارد القطاع الخاص للبلدن الناهضة”. باختصار، يجب ان يبقى البنك مراقبا للسياسة النيوليبرالية، ولكنه يدع القطاع الخاص للتعامل مع معظم الاموال السائلة.
الاموال في البنك
المنتقدون اليمينيون، سعيا منهم لحجب اكثر انشطة البنك الدولي ربحية، يجادلون ليس فقط بتحويل طبيعة البنك الدولي ولكن بافراغ صناديقه التمويلية. ولأن البنك يعطي قروضا بمعدلات فائدة السوق للبلدان المتوسطة الدخل، ولأن هذه البلاد الزبائن هي الوحيدة ذات القدرة الاكبر على سداد الدين، “اصبح بنك اعادة الاعمار والتنمية اكثر المصادر للدعم المالي حسما ومثار للجلبة بين مجتمع التنمويين”، هذا ما تكتبه جيسيكا اينهورن، المدير العام السابق في البنك الدولي، في عدد يناير/فبراير ٢٠٠٦ من مجلة فورين افيرز. وقد اسهبت في الشرح بقولها، “يساعد دخل بنك اعادة الاعمار والتنمية في دعم الميزانية الادارية للبنك الدولي التي تبلغ ٢ بليون دولار”.
عندما يتزاوج ذلك مع فقدان العوائد بسبب تخفيف الديون على البلاد الافقر، خطط المحافظين سوف تجعل من البنك الدولي اكثر اعتمادية على تمويل “الاستعاضة” الذي ترسل به البلاد المانحة. لورانس سومرز، وزير خزانة كلينتون ابان تقرير ميلتسر، كان مدركا تماما لذلك. جادل سومرز بأن توصيات اللجنة “سوف تنخفض بشدة بالمبلغ الاجمالي للموارد التي يمكن جلبها لتتحمل الاقتصاديات النامية وتستدعي نظاما غير صالح للعمل لتقديم مثل هذه المساعدة”.
كرد فعل على هجوم المحافظين، المدافعين عن البنك من الليبراليين والوسط قدموا اقتراحات بمسودات خطط متنوعة لادخال تحسينات غير رسمية في وظيفة المؤسسة وحاكميتها. في اعقاب تقرير ميلتسر، روج سومرز بنفسه لسلسلة من الاصلاحات المتواضعة مصممة، من بين اشياء اخرى، لخلق “شرحا اوضح يعرض ادوار كل من البنك الدولي وصندوق النقد بالترتيب”. في النهاية، مع ذلك، مثل هؤلاء المدافعين استمروا في الاحتفاظ بالبنك الدولي كاداة هامة للسياسة الخارجية، ومقتوا بشدة فكرة خسارتها.
سباستيان مالابي، كاتب العمود الصحفي في الواشنطن بوست، ومؤلف كتاب رجال بنولك العالم، جادل في عدد مايو/يونيو عام ٢٠٠٥ من الفورين افيرز انه بدفع تكلفة صغيرة للمحافظة على استمرار البنك الدولي في دوره في التسليف، “تحتفظ الولايات المتحدة وحلفاءها بالبنك الدولي نشطا في البلاد النامية القوية، لتسمح له بتحقيق ارباح على قروضه وبالتالي الاستمرار في المعايير المهنية التي تجعله اداة هامة في يد السياسة الخارجية الامريكية والاوروبية”. ودافع مالابي عن “فور ما تبدأ في التقاط الاليات الداخلية الدقيقة للبنك في تمويل القروض الناعمة، فلن يكون صعبا تخيل تفاصيل كامل النظام”.
رفقة سرير غريبة
في هذا السياق المثير للجدل، اولئك الذين يحملون نقدا جذريا للبنك الدولي يجدون انفسهم في وضع غريب: انهم اما يقررون التحالف بأنفسهم مع اليمين ذي النزعات التحررية الذي يريد التخلص من المؤسسة او مع نيوليبراليي الوسط الذين يريدون الاحتفاظ بالبنك في شكل معدل بقدر طفيف. في اي من الحالتين، التقدميون المتطلعون الى مؤسسات دولية اكثر تمثيلية والى حلول فعالة للفقر يجب ان يضعوا تصورا لكيف يعبرون عن الطبيعة المتميزة لانتقاداتهم.
بوضوح، هناك العديد من النقاط يتفق عليها اليمين واليسار. الكثير من التقدميين المدافعون عن تخفيف الديون، في افريقيا اضافة الى الولايات المتحدة، يدعمون التحول من قروض البنك الدولي الى المنح. وعلى غرارهم، وصف ليريك لجهود البنك في تخفيض الفقر “كخمسين سنة من الفشل” يشبه صدى نداء “كفى خمسين عاما”. وعندما يقترح اتباع اخرين من اتباع ميلتسر لتقليص حجم الوظائف الاساسية لبنك الدولي وصندوق النقد، فانهم يمتلكون ارضية مشتركة كبيرة مع احتجاجات الشوارع الذين يهتفوون بأن على المؤسسة “ان تمضي”.
فعليا هذا النوع من التحالف قد ترك اثرا سياسيا توا. في اواخر ١٩٩٨، ائتلافا غير اعتيادي من المحافظين والليبراليين في الكونجرس الامريكي تقريبا كان لديهم تقريبا نفس الرفض لمنح صندوق النقد الدولي نحو ١٨ بليون دولار لتمويله — لقد كانت معارضتهم بالاساس هي التي فرضت خلق لجنة ميلتسر في المقام الاول.
يجب ان يدرك اليسار بعض المثالب في دعم الانتقادات المحافظة، مع ذلك. بينما ميلتسر وليريك سوف يزيحان البنك، هما لن يقدما اي نظام قروض للتنمية قابل للربحية للبنوك الخاصة. بدلا من الغاء البنك الدولي، سوف يخصص اليمين هذا البنك. في نفس الوقت، سوف يحتفظ اليمين ببقايا المؤسسات المتعددة الاطراف في متناول اليد للاستمرار في تقييم جدارة استحقاق الحكومات الافقر للاعتمادات. في الماضي، اعطى دور “حارس البوابة” هذا للبنك والصندوق الدوليان الكثير من مواطن القوة لاملاء السياسة الاقتصادية في العالم النامي.
سارة اندرسون من معهد دراسات السياسة، في نقد لها لما اكتشفته لجنة ميلتسر، اشارت الى انه في ظلل اعادة الهيكلة اليمينية، “سوف ينهي صندوق النقد المساعدات الطويلة الامد المرتبطة بشروط اعادة الهيكلة ولكنه سوف يحافظ على استمرار النفوذ الهائل الذي يمتلكه عن طريق الطلب من الحكومات ان توفي “بالشروط المسبقة” التي تهيئ المناخ للسوق الحر من اجل التأهل للمساعدة العاجلة”. بالنسبة للبلاد الافقر، منح وكالة التنمية الدولية التابعة للبنك الدولي سوف تحافظ ايضا على استمرار تلك الشروط بشكل عالي.
احد الاكتشافات الرئيسية في تقرير لجنة ميلتسر كانت ان البنك الدولي لديه سجلا طويلا مرعبا من انجاز رسالته المعلنة في تخفيض الفقر. بعد فحص وثائق البنك الدولي ومقابلة الخبراء، استخلصت اللجنة ان البنك لديه معدل فشل من ٥٥٪ الى ٦٠٪ من المشاريع في كل البلاد النامية، بمعدلات فشل اعلى ايضا في افريقيا. يروي النقاد من اليمين واليسار ايضا هذه الارقام، ولكنهم يمتلكون فهما مختلفا تماما لاسباب فشل المشاريع. يشير المحافظون الى الفساد وعدم وجود القابلية للمساءلة في الامم النامية. على عكس التقدميين، فهم لا يعترفون بالافتراضات الخاطئة للاقتصاديات الماكرو او بعدم مرونة التعديل الهيكلي النيوليبرالي كخطل مشترك يعرقل ويمنع تخفيف الفقر. لو كان للمحافظين طريقتهم، سوف ينهي التخلص من البنك الدولي والاعتماد على تمويل القطاع الخاص (اضافة الى نظام مسيس من المنح الثنائية الاطراف) مزيد من توغل النيوليبرالية المدعومة امريكيا.
حدود الاصلاح
هل يجب حينئذ على التقدميين التركيز على اصلاح البنك الدولي اكثر من انهاء وجوده؟ اصدر الممثلون لهؤلاء الساعين الى الاصلاح، مثل ائتلاف جماعات المجتمع المدني، ومن ضمنهم ال (AFL-CIO) واوكسفام امريكا ومنظمة الدفاع البيئي، نداءا من اجل “اصلاح مسئول للبنك الدولي” سابقا على تصويت الكونجرس على تجديدات وكالة التنمية الدولية في ٢٠٠٢. اضافة الى تخفيف الدين، المقترح يطرح مطالب بأن يخلق البنك الدولي آليات “لاحترام حقوق العمال”، و”يروج للاستدامة البيئية”، و”يستهدف المساواة بين النوع”، و”ينهي تحطيم لوائح التجارة والاستثمار بشكل غير ديموقراطي”.
مثل هذه المطالب تمثل اجندة معقولة للاصلاح على المدى القريب. ومع ذلك، اي ضغط من اجل اصلاح البنك الدولي في المناخ الحالي يجب ان يأخذ في اعتباره الصعوبات السابقة من اجل تغيير المؤسسة. رئيس البنك الدولي الذي يسبق الحالي جيمس ولفنسون اكتسب لنفسه شهرة كمصلح بالتشديد على “تخفيف الفقر” كجوهر رسالة المؤسسة وباشراك منتقدي البنك من المجتمع المدني. ومع ذلك، “اصلاحاته” اتخذت في الاخير شكل مناورات للعلاقات العامة اكثر منها تغييرا حقيقيا. في كل محاولاته التي صاحبتها ضجة اعلامية مدوية من اجل دعوة المجتمع المدني لمراجعة ممارسات البنك — المراجعة التشاركية للاصلاح الهيكلي، مراجعة الصناعات الاستخراجية، مفوضية البنك للسدود — كان يظهر نمطا مماثلا. نشر مسئولو البنك مشاركتهم كما لو كانت تحركا ملموسا نحو “الشراكة” و”الحوار” مع منتقديه. ولكن عندما باتت المؤسسة غير قادرة على السيطرة على تلك المراجعات، وعندما بات واضحا ان ما توصلوا اليه ليس على هواهم، تراجع البنك ورفض اقرار التوصيات التي خرجت بها تلك “الشراكة” التي كانت مبادرة من البنك نفسه مصحوبة بضجة دعائية صاخبة.
دعا البنك ايضا في سنوات ولفينسون الى هجر سياسات الاصلاح الهيكلي لصالح برامج استراتيجية لتخفيض الفقر اكثر مرونة، تقوم البلاد المشاركة نفسها بتطويرها. الا ان، جماعات المجمتع المدني التي قامت بفحص وتمحيص تلك البرامج، اكتشفت بشكل ثابت ان هذه البرامج تستعمل نفس الاطار الاقتصادي وتحتم اتباع سياسات تقريبا هي نفس سياسات الاصلاح الهيكلي.
المصلحة الشخصية المؤسسية يجب الا نتغافل عنها كحاجز جدي ونهائي امام التغيير. كما تلاحظ اينهورن، اقتراحات الاصلاح، الليبرالية والمحافظة، التي تهدد جديا نفوذ البنك او وضعه المالي الجيد تواجه “مقاومة بيروقراطية شرسة” من داخل المؤسسة.
الازمة وفرص النجاة
في ضوء الخيبات السابقة للاصلاح، شغف المحافظون في تقليص البنك يجب عدم اعتباره مغنم، يعكس ازمة اوسع امام شرعية المؤسسة. يستطيع التقدميون انتهاز هذه الفرصة بالانضمام الى تحالفات تضعف مواطن قوة البنك في سياسات التنمية، بينما يستمرون في العمل من اجل تسليط الضوء على فشل السياسات النيوليبرالية التي يود اليمين ديمومتها، حتى ولو ذهب البنك.
رؤى اليسار لما تكون عليه هياكل تمويل التنمية الاكثر عدلا في مرحلة ما بعد البنك الدولي هي في العموم رؤى مبهمة. النظام الدولي الذي يقترحه مونبيوت، الذي فيه الحلفاء التقليديون للولايات المتحدة وقد روعتهم نزعتها الانفرادية في التصرف يتخلون عن ادوارهم كشركاء صغار في عولمة الكوربوريشن ويمارسون ضغوطا على نظام الهيمنة القديم، هو امر موحي. الا انه ما زال قاصرا عن كونه خطة لخلق شيئا ما جديد وافضل في مناخ تسوده الكراهية للنزعة الوطنية الامريكية التي تدس انفها بقوة في شئون الاخرين. فقط والدن بيللو يعطينا شيئا ما اكثر تطورا يصلح كمخطط كروكي للمستقبل. انه يضع صورة “لعالم فضفاضا اكثر وعلاقات هندسية اقل، واكثر جماعية، بالعديد من القيود والموازنات، فيه الامم والمجتمعات الصغيرة في الجنوب — والشمال — تكون قادرة على ان تخلق لنفسها مساحة حتى تنمو معتمدة على استراتيجيات من اختيارها”.
ربما هناك اسبابا وجيهة لعدم اكتمال هذه الرؤى. في النهاية، البلاد الفقيرة والحركات التقدمية لا تمتلك القوة التي تملي بها شروط نظام ما بعد البنك الدولي. الاكثر اهمية من المسودات المحكمة للمستقبل هي المبادئ الحازمة التي يستطيع النقاد والحركات استخدامها لصياغة ردود على الحالة الدولية المتغيرة. تشمل هذه المبادئ الحاجة الى هياكل دولية تعطي للامم النامية صوتا يمثلها في صنع القرار، والاصرار على ان القيود التي تكبل البلدان في مجموعة ضيقة من خيارات السياسة النيوليبرالية يجب التخلص منها، وفكرة ان منظمات الجراس رووت في مجال تخطيط التنمية والتنفيذ هي عامل حاسم لخلق برامج فعالة.
وفي الوقت الذي نشدد فيه على تلك المواقف، سوف يظهر التقدميون في الائتلاف المعادي للبنك الدولي عدم ولاءهم للمؤسسات التي ترفض التخلي عن الحاكمية الغير ديموقراطية. مكان البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والبنوك الاقليمية الموجودة، سوف يروج التقدميون لهياكل منافسة لتمويل التنمية، ووضع قواعدها وتقديم المساعدات الفنية في هذا المجال — شاملة وكالات الامم المتحدة، ومنظمة العمل الدولية، وتلك الهيئات الاقليمية التي تنفتح بنفسها على اليات اكثر تشاركية لصنع القرار.
ربما اعظم الحجج التي تدافع عن الاستمرار في تحالف اليسار واليمين ضد البنك في اللحظة الحالية هي ان الظروف التي تهدد بقاء المؤسسة قد لا تستمر. توا، ادارة بوش، وقد ناءت باثقال الاحتلال الكارثي للعراق، تتخلى عن بعض من اوجه تصرفاتها الهمجية المنفردة وتتودد الى الهياكل المتعددة الاطراف بمسلك اكثر تصالحا. بول ولفنسون كان غالبا ما يبدو كرئيس للبنك “نصيرا للتجارة الحرة من حواريي كلينتون” اكثر منه احد افراد المحافظين الجدد عسكري النزعة. طاقم العمل في البنك الدولي، الذين يتمتعون بمهارات الاحتفاظ بسلطاتهم المؤسسية، ربما هم في انتظار ادارة جديدة في البيت الابيض ترتد الى شيء ما يماثل عولمة الكوربوريشن التي سادت في التسعينات — عندما كانت مؤسستهم لاعبا محوريا في سياسة الولايات المتحدة الخارجية، وكانت صيحات منتقدي البنك “كفى” اكثر ضعفا مما هي عليه اليوم.
—
مارك انجلر، كاتب يعيش في مدينة نيويورك، ويمكن قراءة أعماله في: http://www.DemocracyUprising.
المساعدة البحثية لهذه المقالة قدمها جاسون رويي
__________
Research assistance for this article provided by Kate Griffiths. Photo credit: R. D. Ward / U.S Department of Defense